كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: يدل عليه أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن، والمقسم به هو اللّه تعالى أو صفة من صفاته، وإنما جاءت أمور مخلوقة، والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا:
إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء، كما في قوله: {وَالصَّافَّاتِ} المراد منه رب الصافات، فإذا قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)} أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرّق الشك إليه.
ولعلك بعد كلام الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل في القسم من طريق أوكد.
وقبل أن نتكلم على معنى القسم من اللّه بذاته، أو بأشياء من خلقه، نتكلم على تفسير الآية التي معنا، لنفرغ إلى القول في هذه النواحي باستفاضة.
{أُقْسِمُ} أحلف {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} المواقع جمع موقع، وموقع الشيء ما يوجد فيه، وما يسقط فيه إن كان من أشياء مرتفعة. وعليه، فمواقع النجوم قيل: المشارق والمغارب جميعا، لأنها موجودة فيها. وقيل: المغارب فقط، لأنّ عندها تسقط النجوم. وقيل: بل مواقعها مواضعها من بروجها في السماء ومنازلها منها. وقيل: بل المراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت، وسنتكلّم بعد على حكمة القسم بمواقع النجوم خاصة.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} عظيم خبر (إن) وقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} اعتراض بين إنّ وخبرها. والضمير في قوله: (إنه) يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام على ما تقدّم توضيحه. و{لَوْ تَعْلَمُونَ} شرط، جوابه: إمّا محذوف بالكلية، لأنه لا يتعلق بذكره غرض، إذ المقصود هو نفي ما دخلت عليه (لو). وكأن المعنى: إنّه لقسم عظيم. لو تعلمون. وذلك أنّ (لو) حرف يدلّ على امتناع شيء لامتناع غيره، وعلى ذلك فهي تدلّ على نفي مدخولها لانتفاء شيء آخر، فإذا قد أفاد دخول {لو} على {تعلمون} انتفاء علمهم، وهذا هو الذي يعنينا، أما الجواب فعلمه بعد ذلك كأنّه لا يعني.
ويقول الفخر الرازي: إنّ فائدة مجيء النفي على هذه الصورة بدل قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} ولا تعلمون أنّ النفي على الصورة التي معنا أوكد، لأنّ إتيانه عليها ذكر للشيء بدليله. أما الصورة الأخرى فليس فيها إلا إثبات عظم القسم مقترنا بنفي علمهم من غير تعرّض للإشعار بسبب نفي العلم عنهم. أما هنا فكأنّه قيل: لو كان عندكم أثارة من علم لثبت عندكم عظم القسم، فإن كان أحد يشكّ في ذلك، فمنشأ الشك ليس لعدم العظم في نفس الأمر، بل لأنّه لا يعلم، وأين هذا من ذاك.
وإما أن يكون جواب (لو) مقدّرا مفهوما من خبر (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه، لكنكم لم تعظّموه فلا علم عندكم، وترى أنّا لم نقدّر لتعلمون مفعولا، بل جعلناه منزّلا منزلة اللازم، ويصحّ أن يقدّر له مفعول يدلّ عليه خبر (إن).
{إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)}.
الضمير في (إنّه) يرجع إلى معلوم للمخاطبين، وهو الكلام العربي الذي أنزله اللّه على محمد صلى الله عليه وسلم وكان الكفار يقولون فيه: إنه شعر، إنه سحر إنّه كهانة وافتراء.
فقال اللّه في الرد عليهم: إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77)، وقال بعضهم: هو الكلام من أول سورة الواقعة إلى هنا مما جاء فيها من التوحيد، والحشر، والدلائل التي سيقت لإثباتها، وذلك أنهم كانوا يقولون: هذا كلام من عند محمد لم ينزل عليه من عند اللّه، فقال اللّه في الردّ عليهم: إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78).
والقرآن مصدر أريد منه اسم المفعول، فهو بمعنى المقروء، على حد قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآنا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} [الرعد: 31] وهو من باب {هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] وقيل: بل هو اسم لما يقرأ من الكلام المنزّل إلخ كالقربان اسم لما يتقرّب به، والمشركون وإن كانوا لا يجهلون أنّه مقروء إلا أنهم كانوا ينازعون في أنه قرآن كريم، وأيضا كانوا يقولون: هو من عند محمد، وكانوا ينكرون تنزيله وأنّ محمدا يتلو عليهم ما سمع من الوحي.
ومعنى كونه كريما: أنّه طاهر الأصل، ظاهر الفضل، يجد فيه كلّ الناس ما يريدون من خير: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب اللّه».
وقد وصف اللّه القرآن بأوصاف كثيرة، وصفه بكونه حكيما، وبكونه عزيزا، وبكونه كريما، وبكونه مجيدا، وهو كريم، من أقبل عليه أخذ منه ما أراد، وهو عزيز من أعرض عنه ذلّ، وهو حكيم بما اشتمل عليه من كنوز الحكمة، وهو مجيد بما اشتمل عليه من شريف المقاصد.
وقوله: {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)} أفاد شيئين: الأول: أنه مظروف في كتاب والثاني: أنّه مكنون. فأما ظرفيته في الكتاب فلنا أن نقول: إنّه على حد فلان كريم في نفسه، حيث لا يراد إنّ المظروف شيء والمظروف فيه شيء آخر، فإنّ الشيء لا يكون ظرفا لنفسه، فالقرآن- وهو كتاب- كريم، في كتاب أي نفسه، أو كريم ثبت كرمه في كتاب، هو اللوح المحفوظ، أو يقال: إنّ المظروف هو جملة {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77)} والمظروف فيه هو كتاب، ويكون المعنى: إنّ مضمون هذه الجملة ثابت في كتاب هو اللوح المحفوظ، وقد قيل: الكتاب هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو المصحف، وقيل: بل هو كتاب من الكتب المنزلة: كالتوراة، والإنجيل. وأما كونه مكنونا: فالمكنون هو المستور، فإن كان الكتاب اللوح المحفوظ فمعنى كونه مكنونا أنّه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا نفر مخصوص من الملائكة، ويصحّ أن نقول: إن المكنون أريد منه المحفوظ، ويكون الكن كناية عن الحفظ، لأنّ الشيء إذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى في صونه وحفظه بطرق الحفظ المعتادة، بل يستر عن العيون، وكلّما ازدادت عزته ازداد ستره، زيادة في الصون. فقد استعمل الكن والستر وأريد منه المبالغة في الحفظ والصيانة، وقيل: إنّ معنى كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التبديل والتغيير، فهو على حد قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
وأما قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} فإما أن نجعله من صفة الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ، وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكريم.
وعلى الأول: فالمطهرون الملائكة، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء.
وعلى الثاني: فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى: لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي، كمثله في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً} [النور: 3].
ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع، لا ضمة إعراب، وقد صرّح الفخر الرازي بضعف هذا القول وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة، وهو مروي من عدّة طرق: فعن قتادة أنّه قال في الآية: ذاك عند ربّ العالمين، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس، وقد روي عن الإمام مالك رضي اللّه عنه: أحسن ما سمعت في الآية: الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس {كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس].
وقيل: الآية صفة القرآن حقا، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك، والمراد من المس الطلب، مثله في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ} [الجن: 8] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس، والمعنى: أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك.
وأما قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)} فهو وصف آخر للقرآن الكريم، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال: وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب.
وقد أنهينا القول في تفسير الآيات، وهنا أشياء لابدّ أن نتعرض لها، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول، وهو ما يتعلّق بالأحكام.
قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في {لا يَمَسُّهُ} إلى القرآن الكريم، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول: هم المطهرون من الناس وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف، وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم، أو التعبد عند بعضهم، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأنّ الضمير في {يمسه} راجع إليه، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن، فليس هو المصحف، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون، ويراد من المس الإدراك، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به.
وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون، إذ هو بأيديهم، وأما غيرهم فهم لا يمسونه، لأنه ليس في متناولهم، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.
منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون، وأما الأخبثون من خلقه، فلا يصلون إليه، ويكون ذلك على حد قوله تعالى: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)} [الشعراء] أفرأيت كيف نفى اللّه ابتغاء مجيئهم به، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به، وكذلك {آية عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} [عبس] التي أسلفنا لك ذكرها.
ومن وجوه الترجيح: أنّ السورة مكية، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين: من تقرير التوحيد، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.
ومن وجوه الترجيح: أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.
ومن الوجوه أيضا: أنّ اللّه تعالى قال في وصف الكتاب: مَكْنُونٍ وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية، قال: هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد: مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق: مصون في السماء.
على أنّ ذلك يتفق تماما مع قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قرآن مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} ولو نظرت إلى أنّ الآية سيقت للرد على المكذبين لوجدت الذي نقول أبلغ في الرد عليه من وصفه بأنه لا يمسه المحدثون.
على أنّ الآية خبر، وتأويلها على الوجه الذي ذكرنا يبقيها على خبريتها، أمّا تأويلها على الوجه الآخر، فيحتاج إلى إخراجها عن الخبرية إلا الإنشاء، والأصل إبقاء الخبر على خبريته حتى يوجد المقتضى، ونحن نبحث عنه فلا نجده.
على أنّه لو كان المعنى ما ذهبوا إليه لقيل: لا يمسه إلا المتطهرون بدل إلا المطهرون، فالمطهرون من تكون طهارتهم من غيرهم، أما المتطهرون فطهارتهم مسندة إليهم، وحيث أراد اللّه هذا المعنى قال فيه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وفي الحديث: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».